الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة

عوامل النهضة الأدبية في العصر الحديث

العوامل المؤثرة في نهضة الأدب الحديث " الأزهر والتعليم "
عوامل النهضة الأدبية في العصر الحديث " الأزهر والتعليم "


من عوامل النهضة الأدبية في العصر الحديث "الأزهر والتعليم" :

“محمد علي” يرتكب خطأً كبيرًا في تقسيم التعليم في مصر :

كان من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها "محمد علي" في محاولته النهضة بالتعليم أن فصل بين التعليم الأزهري والتعليم المدني فأصبح التعليم في مصر يقوم على ثنائية عجيبة لا توجد في أي بلد من بلدان العالم.

الصحيح أن تستنهض الحركة التعليمية من داخل الأزهر :

وكان السبيل الصحيح أن تستنهض الحركة التعليمية من داخل الأزهر نفسه، فالأزهر وحده هو الذي يستأثر بالفضل في حفظ علوم التراث وصيانة الذخائر العلمية التي تركها العلماء الأقدمون على الرغم من عواصف المحن التي أصابت البلاد ... 

وكان أولى بمحمد علي أن يتعظ بما رآه وجربه من نبوغ الطلاب الأزهريين الذين ألحقهم بالبعثات وتحقيقهم ما لم يحققه غيرهم من التبريز والتميز في دراسة علوم ومعارف لم يكن لهم بها سابق عهد وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدراسة الأزهرية قد أسست فيهم من المدارك والقدرات ما ليس عند غيرهم.

تاريخ الأزهر يدل على أنه ارتبط بمصر وارتبطت مصر به :

وعلى أية حال فإن تاريخ الأزهر يدل على أنه ارتبط بمصر وارتبطت مصر به وأن قيادة العالم الإسلامي فكريًا وروحيا وتوجيهه الوجهة الصحيحة لابد أن تكون بيد الأزهر، وأن النهضة الأدبية واللغوية لا بد أن تكون قائمة على أصول من التراث الذي صانه الأزهر وحَفِظه.

نشأة الأزهر في عهد الفاطميين على يد "جوهر الصقلي" :

وقد أنشئ الأزهر في عهد الفاطميين أنشأه "جوهر الصقلي" قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي في ۹ رمضان سنة (٣٦١ هـ/ ۹۷۰ م)، ولم يكن يريده إلا مسجدًا للعبادة كشأن غيره من المساجد ، ولكنه ما لبث أن تحول إلى مدرسة جامعة لنشر المذهب الشيعي، وتدريس العلوم الدينية على أصول هذا المذهب، وإلى جوار ذلك تدرس بعض العلوم اللغوية والعقلية، وبعض العلوم الدنيوية.

حرص الفاطميون على العناية بالأزهر واستقدام العلماء :

وقد حرص الفاطميون على العناية بالأزهر واستقدام العلماء للتدريس فيه، وأجرى خلفاؤهم الأرزاق والعطايا على هؤلاء المدرسين، وكلما زاد عدد الطلاب وكثرت حلق الدروس وسعوا في بناء الجامع حتى إذا أدال الله من الفاطميين لصلاح الدين الأيوبي، هدم دورهم، وحرق كتبهم، وأبطل مذهبهم، فقام التعليم في الأزهر على المذهب السني، وهو القائم في عامة البلاد إلى الآن (1).

--------------------

(1) المفصل في تاريخ الأدب العربي، ص ٥٢٦.

--------------------

ثبات الأزهر في العصرين المملوكي والعثماني فأدى رسالته :

وقد ثبت الأزهر في العصرين المملوكي والعثماني يقوم بواجبه ويؤدي رسالته على الرغم من قيام السلاطين بإنشاء عدة مدارس مجاورة، ومدارس أخرى انتشرت في أنحاء مصر، واكتظت القاهرة بأبناء الريف الذين يفدون من قراهم للدراسة بالأزهر واستماع الدروس في المساجد الأخرى التي كانت تضم مدارس فقهية ولغوية.

ثبات الأزهر وحده خلال هذه العواصف العاتية لعدة أمور :

وقد ساءت حالة الحياة التعليمية في العصر العثماني لشيوع الفوضى والظلم في البلاد، وحرص الولاة على كثرة الجبابة، فخبا ضياء العلم، وانصرف الناس عن طلبه، ولكن الأزهر ثبت وحده خلال هذه العواصف العاتية وإن تأثر بها وذلك لعدة أمور:

  • أنه هو الذي يقوم على تعليم الدين وحفظ الإسلام، وللدين أثره وهيبته في النفوس، فلم يفلح الولاة الظالمون في النيل منه.
  • تاريخه القديم جعل له من العراقة والقداسة والإعزاز ما يجعل الأمر صعبًا على من يحاول إطفاء نور العلم والهدى الذي يشع منه.
  • مكانته العالية في العالم الإسلامي.
  • كان طلابه وعلماؤه زهادًا في عرض الدنيا فالطلاب يفدون من خارج مصر ومن داخلها إلى ساحته وأعمدته، رغبة خالصة لوجه الله في التفقه في علوم الدين ودراسة اللغة العربية ...
أما العلماء فكان أكثرهم يحتسبون بتدريسهم الأجر عند الله ، وكانوا زهادًا غير طامعين في المناصب جمع الأموال، فلا منافسة في الدنيا بينهم وبين هؤلاء الولاة، بل كان هؤلاء الولاة يرهبون سطوتهم، ويخافون من التعرض لهم لما أوقع الله في قلوبهم من هيبتهم، واعتقادهم بأن لهم عند الله منزلة وكرامة، وأن لهم في عامة الشعب تأثيرًا ونفوذًا.
  • كانت مصادر الإنفاق على الأزهر وما يجري على طلابه ومشايخه من قليل الأرزاق مستمدة من حبوس الأوقاف التي أوقفها سلاطين وأمراء سابقون قد خلا عهدهم على الأزهر ومجاوريه، فليس على ولاة العثمانيين عبء في الإنفاق على الأزهر.

تعرض التعليم الأزهري للجمود في بعض الفترات بالرغم من الثبات :

ومع ذلك الثبات فإن التعليم الأزهري قد أصابه كثير من الجمود، وتوقفت حركته إلى الإمام، ومرجع هذا إلى ما أصاب الحياة نفسها من استبداد الحكام، وانطفاء الرغبة في الكشف والابتكار ...

فزالت من مقررات التدريس علوم الحياة ولم يبقَ من علم الحساب إلا قدر ضئيل يُحتاج إليه في المواريث، ولم يبق من علم الهيئة إلا قدر ضئيل يُحتاج إليه في ضبط مواقيت الصلاة، وكان جل الاهتمام بالعلوم الدينية واللغوية والعقلية وللطريقة التي اتبعت في تدريسها جوانب إيجابية، وجوانب سلبية.

الجوانب الإيجابية التي اتبعت في تدريس العلوم الدينية واللغوية والعقلية :

فأما الجوانب الإيجابية فهي:

1- تحليل الأفكار، والتدقيق في تفهم الألفاظ وتشريح (العبارة).

2- المشقة والجد في طلب العلم مع الصبر والدأب، وحمل النفس على الاجتهاد في طلب الحقائق.

3- إرهاف الأذهان، وتربية ملكات الحفظ، والتفطن لكل دقيق وجليل مما يعرض للطالب من أقوال وآراء.

4- تقليب المعاني والأفكار على عدة وجوه ونصب إشكالات واعتراضات عقلية فيبتعد الطالب بذلك عن أحادية الفكر، وضيق الرؤية.

الجوانب السلبية التي اتبعت في تدريس العلوم الدينية واللغوية والعقلية :

وأما الجوانب السلبية فهي:

1- ضياع الوقت في الوقوف عند جزئيات الألفاظ والعبارات وأكثر المناقشات لا تعدو أن تكون مناقشات لفظية لا طائل من ورائها.

2- تعثر الطالب أمام ما ينصب من وجوه الاعتراضات الشكلية واعتصار الذهن في تفهمها، فتتبدد طاقته قبل أن يصل إلى لب المادة، وجوهر الموضوع فيختلط عليه الأمر بين المضمون الكلي، وهذا التحليل المضني للجزئيات اللفظية فلا يدري أين هو.

3- تحولت البلاغة من مادة يُقصد بها تربية الذوق إلى مادة ممعنة في التقسيمات والمصطلحات، وتكرار الشواهد والأمثلة بأعيانها دون إضافة أو تجديد.

4- انعدمت النظرة الكلية التي توحد بين العلوم الدينية واللغوية والأدبية، وتتعرف على الصلات والوشائج التي بينها ...

ولم يعد الأمر - كما عهدنا - في قدماء المفسرين والفقهاء والشعراء واللغويين فكان الإمام منهم جامعا لمواهب وقدرات متعددة، وإنما أصبح دارس الفقه أو التفسير يخطئ في إقامة العبارة نحويًا، ويخونه الذوق الأدبي في فهم النص، وكل يحصل العلم بتفاصيل مادته وحدها.

وكذلك ترى النحوي لا يُعنى بالنقد الأدبي، ودارس الأدب لا شأن له بعلوم الدين بل بما هو أشد التصاقا به كالنحو والصرف وعلوم اللغة وهذا كله ناشئ من عقم الطريقة، وفقدان المنهج الكلي في التدريس.

تنبه حكماء المسلمين إلى أهمية النهوض بالتعليم في الأزهر :

في أواخر القرن التاسع عشر تنبه حكماء المسلمين إلى أهمية النهوض بالتعليم في الأزهر، ودعوا إلى إدخال دراسة العلوم الرياضية والطبيعية في مناهجه ومقرراته، ورأت الحكومة آنذاك أن تمهد للأمر بفتوى من كبار الفقهاء، ثم تصدى الشيخ محمد عبده لإصلاح الأزهر، وتطبيق علومه على حاجة الأمة ...

فلقي مقاومة عنيفة ولكن تأثيره بقي يسري في الأجيال التي تربت على يده وانتشرت دعوته الإصلاحية، وحمل بعض مشايخ الأزهر التجديد، فأضيفت في مستهل القرن العشرين طائفة من العلوم الحديثة في مواد التدريس، وقومت مناهجه تقويما يجاري حركة التقدم الزمني ... 

وقسّمت مراحل التعليم فيه إلى ثلاث مراحل ابتدائية وكانت مدتها أربع سنوات وثانوية وكانت مدتها خمس سنوات وعالية (جامعية) أربع سنوات، وقد تتفاوت مددها باختلاف التخصص، وفي عهد الثورة صدر قانون إصلاح الأزهر وأنشئت كليات عملية كالطب والهندسة والزراعة والإدارة والمعاملات (التجارة) واللغات والترجمة ...

كما أنشئت كليات خاصة بتعليم البنات ولكن هذا التوسع ما زال بحاجة إلى دراسة متعمقة وإعادة نظر ليحقق الغاية المرجوة منه، وهي تخريج الداعية أو الإمام العالم الذي يجمع بين الثقافتين الدينية والمادية.

قيام الأزهر بصيانة اللغة العربية في عصور الانحطاط الأدبي :

وعلى أية حال فإن الأزهر هو الذي صان اللغة العربية في عصور الانحطاط الأدبي، واعتمد عليه "محمد علي" في انتخاب رجال النهضة التي رمى إليها، كما اعتمد على أبنائه في نقل بعض كتب العلم وصياغتها في قالب عربي متين، ومن الأزهر أخذ طلبة البعوث إلى أوربا (۱)، والأزهر هو الذي تصدى لدعوات الانحراف والآراء الشاذة، ومحاولات الغزو الفكري عن طريق الأدب، أو المذاهب الفلسفية والاجتماعية.

------------------------

(۱) تاريخ الأدب العربي لحنا فاخوري، ص ٩٠٥ ، ٩٠٦.

------------------------

والأمل الكبير معقود بمشيخته الحالية، وقادته ليمضي على درب التجديد القائم على الأصول والثوابت وليؤدي رسالته واثقا من إمكاناته وقدراته في عصر أصبح العالم فيه شديد الحاجة إلى قيادة روحية واعية مدركة لحاجات النفس الإنسانية حتى تأخذ الطريق على أدعياء الإصلاح، وتبادر هي بالنهضة التي تتطلع العيون إليها تحت لواء الإسلام.

الموضوع السابق :

الموضوع الحالي  :

تعليقات